باحث أثرى: الكحل اختراع مصرى قديم لتزيين عيون الملوك


بدأ خبير حديثه الآثار الدكتور عبد الرحيم ريحان مدير عام البحوث والدراسات الأثرية والنشر العلمى بجنوب سيناء بوزارة السياحة والآثار بالكلمات التى تغنى بها مطرب الزمن الجميل كارم محمود “يا كحل العيون يا سر الهوى.. خليت الجفون للعاشق دوا.. حلفتك يا غالي تكحل عينيها.. وقول للمراود تحاسب عليها”.

لغة العيون


كشف الدكتور عبد الرحيم ريحان أن أول من اكتشف سر لغة العيون كلغة تفوق لغة الكلام وهى المرأة المصرية التى  تفننت في تجميل العيون بشتى الصور لتكون لغة العين أكثر إثارة فى قلوب محبيها وعشاقها، وسجل المصريون القدماء منذ سبعة آلاف سنة على جدران معابدهم العين بطلة الصراع بين الخير والشر منذ أن اقتلعها ست من وجه حورس.. وأعادتها إيزيس.. ومن وقتها أصبحت العين تعنى الحياة.

الكحل اختراع مصرى قديم


ولفت الدكتور ريحان إلى أن الكحل اختراع مصرى قديم منذ 3500 – 4000 قبل الميلاد، وظهر بالآثار المصرية عيون المعبود (رع) محددة بشكل مذهل، كما استخدم لتزيين عيون الملوك، وكانت جميع الطبقات فى مصر القديمة من عمال وملوك يقومون بوضع الكحل على أعينهم ولذا ظهر المكياج الأسود الكثيف المعروف فى جميع أنحاء العالم، ولايزال البعض يستخدمونه فى شمال أفريقيا وآسيا الوسطى


واستخدم الكحل فى الحضارة المصرية القديمة للنساء والرجال، لحماية أعينهم من شمس الصحراء الحارقة ومن بعض أمراض العيون، ولذا كان يوضع للأطفال حديثى الولادة والأطفال صغار السن بغض النظر عن جنس الطفل، لتقوية العين أو لحمايتها من العين الشريرة أو الحسد وعرف عن الكحل بأنه لديه العديد من الخصائص المضادة للميكروبات بالإضافة إلى أنه كان يرمز ويمثل الجانب السحرى لاستدعاء الآلهة حورس ورع من خلال وضع المكياج الأسود، والعين دائمًا مفتوحة على التوابيت التي تحتوي المومياء للاعتقاد بأن الميت يرى ما يحدث حوله

رسم فرعونى للعيون


وتابع الدكتور ريحان فإذا دققنا فى الرسوم والنقوش المصرية القديمة على جدران المقابر والمعابد التى تحتفظ بألوانها الزاهية حتى اليوم نكتشف أن قدماء المصريين كانوا يحرصون على رسم عيونهم بطريقة واضحة بالكحل، حتى أصبح رسم العيون الآن بشكل بارز وواضح بالكحل وأدوات التجميل تسمى بالفعل “رسم فرعونى للعيون” واشتهرت شخصيات مثل كليوباترا ونفرتيتي بالكحل الأسود للعين، واللون الأزرق على الجفون، كما ظهر جمال المرأة المصرية فى تمثال رع حوتب وزوجته نفرت بالمتحف المصرى بالتحرير من عصر الأسرة الرابعة، وعرف عن الملكة كليوباترا كثرة وغزارة استخدامها للكحل في عينيها وفى عام 2017 ظهرت المطربة ريهانا وهى تجسد وجه الملكة نفرتيتى بمكياج دقيق على غلاف مجلة فوغ أرابيا. واللاتى ارتبطن بمكياج من ظلال عيون زرقاء وكحل داكن كثيف.

صناعة الكحل


ونوه الدكتور ريحان إلى أن “المرود” الذى تغنى به الشعراء هو عود صغير من الخشب أو العظم أو العاج، بوضع طرفه فى مادة دهنية، ثم يغمس فى مسحوق الكحل، والتكحل بكامل العين مع سحب خط، وصنع الكحل فى مصر القديمة من عدة مواد منها بخلط “السخام (سواد الحلة) مع معدن يسمى جالينا ينتج عنه معجون أسود، كما ظهرت العيون مزينة بالكحل الأخضر وهو نتيجة خلط المرمر مع الجالينا، ويحوى أكسيد النحاس والسيليكون والتلك وبودرة قشور اللوز ودهون بعض الحيوانات مثل البقر، واعتقدت النساء قديمًا أن المرمر جاء من المعبودة حتحور “آلهة الحب”.


وقد عثر على الكحل والزيوت العطرية والمساحيق فى المقابر منذ فجر التاريخ واستخرج الكُحل من الملخيت من خامات النحاس أخضر اللون والذى ينتشر بسيناء والصحراء الشرقية ، كما استخرج الكحل من الجالينا وهو من خامات الرصاص أشهب اللون وتستخرج من منطقة بالقرب من أسوان أو على ساحل البحر الأحمر وعثر على كلا المادتين فى أكياس جلدية أو كتانية ، ويحتمل أن المسحوق الناعم كان يخلط بالماء أو الصمغ أو ربما كلاهما ويحتمل أيضًا أن يخلطا براتنج أو زيوت نباتية لتكوين عجينة لينة يمكن وضعها بالحاجبين أو كحل حول العينين فيزيدهم أتساعًا  كما رسمت العين بشرطة إلى الجانب كما هو معروف من المناظر المصورة.


وكانت أغلبية الكحل مصنوعة من كبريتيد الرصاص مع أعشاب طبية من الزعفران والشمر، وقام المصريون القدماء بتخفيف كل هذه المواد بالسوائل بما فى ذلك الماء والحليب والدهون الحيوانية والزيت والتى  تجعلها أكثر قابلية ليتم وضعها على العين، وتنوعت أوعية حفظ الكحل وأشكالها ومواد صنعها تظهر جمال المرأة المصرية تمثال رع حوتب وزوجته نفرت من عصر الأسرة الرابعة

موضة الكحل


وأشار الدكتور ريحان إلى أن الكحل أصبح موضة منذ عشرينات القرن الماضي بعد اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون عام 1922، والتي حظيت بتغطية إعلامية مكثفة من كل العالم وهو ما ساعد على عودة موضة الكحل ولكن شكل الكحل في الماضي يختلف عن شكله المتطور الآن، حيث كان كثيفًا للغاية وثقيلًا وأسود داكن “سموكي” بعكس الموجود حاليًا. وهو الكحل السائل الذى ظهر منذ عام 1950 رغم إنى الكحل السائل يسبب مشاكل في الرؤية من خلال دراسة طبية نشرت في مجلة “العيون والعدسات اللاصقة” حيث كشفت عن أن وضع الكحل السائل ينتقل إلى داخل العين ويضرها ويسبب عدم وضوح الرؤية.

الكحل عند العرب


وعن الكحل عند العرب أوضح الدكتور ريحان أنه عرف عن العرب قديمًا اشتهارهم بوضع كحل الزينة وكانت أول من وضعته (زرقاء اليمامة) وهي امرأة من قبيلة جديس بمدينة “جو” وهى اليوم واحة من واحات المملكة العربية السعوديّة وقاعدتها هي مدينة الرياض وعُرِفت بجمالها حيث شُبّهت بالقمر ليلة البدر، وامتازت ببصرها القويّ، وبقدرتها على رؤية الأشياء من مسافات بعيدة جدًا ومن أجل ذلك سُميت بـ(زرقاء اليمامة)


ولقد كان الاكتحال من عادات العرب التى يحرصون عليها ومن مظاهر الجمال عندهم؛ لذا اكتحل النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بالاكتحال، وورد في سنته صلى الله عليه وسلم الحث على الاكتحال بنوع معين من الأحجار التي يكتحل منها؛ وهو الإثمد، وبيَّن فوائد الاكتحال، وكلها تدور حول تقوية البصر وتجليته، وإزالة الشوائب العالقة في العين.


وكانت مادة الكحل الطبيعي تستخرج من حجر هش لامع يسمي ( الإثمد) وهو عبارة عن حجر أسود يميل إلى الحمرة وبعضه لامع فضي يدق ويصنع منه كحل العين كما تفننت بعض الطبقات الفقيرة من النساء في صنعه من نوي البلح بعد حرقه وإضافة زيت الزيتون أو لبان الدكر لتكحيل العيون به وهو ما يسمي بالكحل البلدي عوضًا عن كحل حجر الإثمد. وارتبط الكحل عند بعض النساء بحلقات الزار وإخراج الجن كذلك استخدمنه البعض لإطالة الرموش القصيرة وتحديد اتساع العين أو إخفاء ما بها من عيوب


وأشار الدكتور ريحان إلى أن كحل الأثمد العربي يتميز بكونه أفضل أنواع الكحل العربي لخلوه من عنصر الرصاص الذي يوجد في معظم أنواع الكحل والتي تسبب ضررًا بالعين عند استخدامها لفترة طويلة، ويستخرج كحل الأثمد العربي من حجر يحمل الاسم نفسه ويوجد بشكله طبيعي بوفرة في بلاد الحجاز والمغرب العربي وبلاد الشام، ويتكون كحل الأثمد العربي من المسحوق المستخرج من حجر الأثمد والذي يتكون من ثلاثة مركبات رئيسة وهي مركبات الانتموان وينتمي الأثمد إلى شبيهات المعادن والذي يمكن العثور عليه حر في الطبيعة، أو متحدًا مع عدد من المعادن  على شكل حجر بلون فضي لامع هش سهل التفتت


ويستطيع كحل الأثمد القضاء على عدد كبير من الجراثيم التي تغزو العين وتتسبب في التهاباتها وحالاتها المرضيّة المختلفة، كما يحتوي على مركب الانتموان القادر على القضاء على عدد من الطفيليّات الغازية للعين، وقدرته على إنبات الرموش، وزيادة طولها وكثافتها، حيث تلعب الرموش دور مهم في حماية العين من الأتربة فضلًا عن المظهر الجمالي الذي تمنحه الرموش الطويلة للعين  


وينقع حجر الأثمد مع مقدار من المياه ونفس المقدار من الزيت الطبي لمدة ثلاثة أيام بالماء العادي بعد غليه لتعقيمه ثم يصفى ثم يُحمّص على نار خفيفة لبضع دقائق حتى تخرج رائحته ثم يفتت مع التأكد من خلوّه من الشوائب


 

الكحل وتفسير الأحلام والأمثال الشعبية


وأوضح الدكتور ريحان أن الكحل مادة غنية في تفسير الأحلام ففسرت رؤيته فى الحلم على أنه زيادة في المال وتبصر في الصلاح وقيل زيادة ضوء البصر، والبكر إذا اكتحلت فإنها تتزوج أما المتزوجة إذا اكتحلت فترزق بمولود.


كما انعكس الكحل والتكحيل على الأمثال الشعبية بدلالات ومعان كثيرة منها ( جه يكحلها عماها ) ( ماتاخدش السهتانة ولا أم كحلة ولا لبانة تاكل وتعمل عيانة)، ( جبال الكحل تفنيها المراود)،( يسرق الكحل من العين)، (اللي معاه الكحل يتكحل واللي مامعاهوش من البلد يرحل ).


أما في الغناء فقلما تجد مطربا لم يتغن بالكحل والعيون الكحيلة خاصة المطربين الشعبيين أمثال محمد الكحلاوي صاحب التراث البدوي الشهير( داري الجمال في العين.. ياللي عيونك سود.. يا اسمر كحيل العين)، وعبد العزيز محمود ( يامزوق ياورد في عود والعود استوى.. والكحل في عنيك السود جلاب الهوى ) وغيرها.


مصدر الخبر

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*